كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا الحديث يقتضي بطلان حلف الإسلام، ومنع التوارث به، فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة وجوه فالأشبه الرجوع بها إلى ما قاله أئمة التفسير من الصحابة والتابعين مثل ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، فإنّهم أعرف منا بالناسخ والمنسوخ، وقد قالوا: إنها منسوخة بآية الأنفال، وظاهر قول ابن عباس: وقد ذهب الميراث أن الحليف كان له على حليفه النصرة والنصيحة، وكان له نصيب في تركته، فلما نزلت آية الأنفال نسخت نصيبه من الميراث وبقي ما كان له من النصرة والمشورة.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي أنه سبحانه لم يزل عالما بجميع الأشياء، مطلعا على جليها وخفيها، فيعلم من آتى الوارثين حقهم ومن منعهم، وسيجازي كلّا من المؤتي والمانع على حسب ما عمل، فهي في هذه الحالة وعد للطائعين ووعيد للعاصين.
قال اللّه تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} قوّام: صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته، فالرجل قوّام على امرأته، كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي والحفظ والصيانة.
والقنوت: دوام الطاعة.
وأصل النشز بسكون الشين وفتحها المكان المرتفع، فالنشوز الترفع الحسي، ثم توسّع فيه، فاستعمل في الترفع مطلقا، والمراد بالنشوز هنا العصيان والترفع عن المطاوعة.
والعظة: النصيحة والزجر.
المضاجع: مواضع الاضطجاع.
وروى مقاتل أن سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته، فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: ارجعوا، هذا جبريل أتاني وأنزل اللّه هذه الآية، وتلاها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
جعل اللّه للرجال حقّ القيام على النساء بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة، وعلّل ذلك بسببين:
أولهما: ما فضل اللّه به الرجل على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة، ولذلك خصّ الرجال بالرسالة، والنبوة، والإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر:
كالأذان، والإقامة، والخطبة، والجمعة، والجهاد، وجعل لهم الاستبداد بالفراق والرجعة وإليهم الانتساب، وأباح لهم تعدد الأزواج، وخصهم بالشهادة في أمهات القضايا، وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب، إلى غير ذلك.
وثانيهما: ما ألزمه اللّه إياه من المهر والسكنى والنفقة.
وقد دلت الآية على أمور:
1- تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف.
2- أنّ للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج.
3- أن له حق الحجر على زوجته في مالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأن اللّه جعله قوّاما عليها بصيغة المبالغة، والقوّام الناظر على الشي ء، الحافظ له، والمالكية يقولون بهذا المبدأ على تفصيل فيه، محلّه كتب الفروع.
4- وجوب النفقة على الزوج لزوجته.
5- أنّ على الزوجة طاعة زوجها إلا في معصية اللّه، وفي الخبر: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
6- أنّ لها حق المطالبة بفسخ النكاح عند إعسار الزوج بالنفقة أو الكسوة، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وهذا مذهب المالكية والشافعية.
أما الحنفية فيقولون: ليس لها حق الفسخ لقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
{فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ} هذا شروع في تفصيل أحوال النساء، وكيفية القيام عليهن، بحسب اختلاف أحوالهن، وقد قسّمهن اللّه قسمين:
طائعات، وناشزات.
فالمرأة القانتة التي تطيع ربها، وتطيع زوجها، وتحفظه في نفسها وعفتها، وفي ماله وولده في حال غيبته- وهي في حضوره أحفظ- مثل هذه يقال لها امرأة صالحة وكفى.
وأما المرأة الناشز فطريق القيام عليها بالتأديب والتقويم هو ما قال اللّه تعالى: {وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} إلخ.
وظاهر قوله تعالى: {فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ} إلخ أنه خبر، وبعض العلماء يقول المراد به الأمر بالطاعة، فالمعنى: لتطع المرأة زوجها، ولتحفظه في نفسها وفي ماله، حتى تكون امرأة صالحة للحياة الزوجية، تستحق جميع حقوق الزوجة الصالحة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {بِما حَفِظَ اللَّهُ} فإنّ معناه، أنّ عليهن أن يطعن أزواجهن، ويحفظنهم، في مقابلة ما حفظه اللّه لهن من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف، فهو جار مجرى قولهم: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك، وعليه تكون (ما) اسم موصول.
وقيل: معنى بِما حَفِظَ اللَّهُ إن السبب في طاعتهن وحفظهن أزواجهن هو حفظ اللّه لهن، وعصمته إياهن، ولولا أنّ اللّه حفظهن وعصمهن ما حفظن أزواجهن، وعليه تكون (ما) مصدرية.
وقد أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها»، ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} إلى قوله تعالى: {حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ}.
وفي الصحيح: «نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده».
{وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.
هذا هو القسم الثاني من قسمي النساء اللاتي جعل اللّه للرجال حق القيام عليهن، كما سبق، وهو خطاب للأزواج، وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن.
وأصل الخوف فزع القلب عند الشعور بحدوث أمر مكروه في المستقبل، وقد يتوسع فيه، فيستعمل بمعنى العلم، لأنّ خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه، وقد علمت أنّ النشوز هو العصيان، وظاهر الآية ترتب العقوبات المذكورة على خوف النشوز، وإن لم يقع النشوز بالفعل، وهو بعيد، لذلك أوّل العلماء هذه الآية عدة تأويلات، فمنهم من فسّر الخوف بالعلم، ومنهم من قدر مضافا: تخافون دوام نشوزهن، أو أقصى مراتب نشوزهن.
ومنهم من قدر معطوفا محذوفا: تخافون نشوزهن ونشزن.
ومنهم من أبقى الخوف على أصله، وجعل جزاءه الوعظ فقط، تخافون نشوزهن بظهور أماراته، كخشونة بعد لين، وتعبيس بعد طلاقة، وإدبار بعد إقبال، ومتى ظهرت هذه الأمارات كان للزوج أن يعظها فقط، ويخوّفها عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فإن لم تمتثل كان ذلك نشوزا محققا، وله فيه الوعظ والهجران والضرب.
والمراد بالوعظ أن يقول لها مثلا: اتقي اللّه! فإنّ لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك.
واختلفوا في معنى الهجران في المضاجع، فقيل: إنه كناية عن ترك جماعهن، وقيل: المراد تركهنّ منفردات في حجرهنّ ومحل مبيتهن، فيكون في ذلك ترك جماعهن وترك مكالمتهن، ولا يزيد في هجر الكلام عن ثلاثة أيام.
وفسر العلماء الضرب المباح بأنه الضرب غير المبرح، أخرج الجصاص عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: «اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه، وأن لكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وأخرج ابن جرير نحوه، وروى ابن جريج عن عطاء قال: الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه، ومثله عن ابن عباس، وقال سعيد عن قتادة: ضربا غير شائن.
وقال العلماء: ينبغي ألا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه فإنه مجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا بعصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأديب على أبلغ الوجوه.
ومع أنّ الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أنّ تركه أفضل.
أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي اللّه عنه قالت: كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهنّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: «ولن يضرب خياركم».
وروي نحوه عن عمر بن الخطاب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه: «ولا تجدون أولئكم خياركم».
ومعناه أن الذين يضربون أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا، فدل الحديث على أن الأولى ترك الضرب.
واختلف العلماء في هذه العقوبات أهي مشروعة على الترتيب أم لا؟ ومنشأ الخلاف اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى عدم الترتيب يقول: الواو لا تقتضيه، والفاء في قوله: {فَعِظُوهُنَّ} لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع على النشوز، فله أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا كانت، وله أن يجمع من غير ترتيب بينها.
ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ وإن دلّ على مطلق الجمع، فإنّ فحوى الآية تدل على الترتيب، إذ الواو داخلة على جزاءات مختلفة متفاوتة واردة على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي إلى الأقوى، فإنّه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بأنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد.
وروي عن علي رضي اللّه عنه ما يؤيد ذلك فإنه قال: يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
{تبغوا}: تطلبوا، أي: فإن رجعن إلى طاعتكم بعد هذا التأديب فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدّي عليهن. أو: فلا تظلموهن بطريق من طرق التعذيب والتأديب.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} قيل: المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء، والمعنى أنه تعالى قاهر كبير قادر ينتصف لهن، ويستوفي حقهن، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن، وأكبر درجة.
وقيل: المقصود منه حثّ الأزواج، وبعثهم على قبول توبة النساء، والمعنى: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها، وتتركوا معاقبتها.
قال اللّه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} المراد بالخوف هنا: العلم.
والشقاق: الخلاف والعداوة، وأصله من الشق، وهو الجانب، لأنّ كلّا من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر.